نهج الشرع الواقعي- سوريا، إسرائيل، وبناء الدولة في ظل التحديات الإقليمية.

يُفترض على نطاق واسع أن الامتناع الرئيس السوري أحمد الشرع عن الدخول في صراع عسكري مباشر مع إسرائيل، بهدف ردعها عن ممارساتها العدوانية، يرجع بشكل أساسي إلى الوضع الحرج الذي تمر به سوريا. فالدولة، التي أنهكتها سنوات الصراع الطاحن، تسعى جاهدة لإعادة بناء مؤسساتها، وتشكيل جيش وطني قوي، وكسر عزلتها الدولية، وبالتالي لا تمتلك القدرة على تحمل تبعات حرب مباشرة مع إسرائيل قد تقضي على آمالها في إعادة البناء.
يبدو هذا الافتراض منطقياً إلى حد بعيد. فالصراعات العسكرية عادة ما تكون باهظة التكاليف حتى بالنسبة للدول المستقرة، فما بالنا ببلد مُدمر مثل سوريا؟ ومع ذلك، فإن مقاربة الرئيس الشرع للتحديات التي تفرضها إسرائيل تتجاوز هذا السبب الظاهري، بالرغم من أهميته وجدواه.
إن نظرة الرئيس الشرع إلى الأمور تتسم بالشمولية والعمق. فهو يقود سوريا في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة، بعد أن كان في فترة سابقة زعيماً لإحدى الجماعات الإسلامية. هذا التحول قد يبدو غريباً للبعض، لكنه يعكس بجلاء الملامح الجديدة لشخصية أحمد الشرع كرجل دولة يسعى إلى تحقيق أهداف طموحة، مثل بناء دولة عصرية، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ودرء خطر الانزلاق إلى الفوضى الداخلية، في ظل تصاعد حدة التحديات، وعلى رأسها التحركات الإسرائيلية العدوانية في المنطقة.
كما يظهر إدراكاً متعمقاً للمخاطر الأخرى التي تكتنف عملية التحول، إذ يعتبر أن الاندفاعة الإسرائيلية في سوريا ما هي إلا جزء من مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يتبناه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وإحدى نتائج الصراع الجيوسياسي المحتدم بين تركيا وإسرائيل على الأراضي السورية. وهذا يشير إلى أن البعد الإقليمي يطغى على التحدي الإسرائيلي لسوريا، ويتجاوز العوامل الأخرى.
يسعى الرئيس أحمد الشرع جاهداً للاستفادة من دروس الماضي في التعامل مع إسرائيل. فعلى الرغم من أن بشار الأسد سار على نهج والده الراحل حافظ الأسد في الحفاظ على الهدوء على الجبهة مع إسرائيل لضمان استمرار حكمه لفترة طويلة، إلا أن سماحه لإيران باستخدام الأراضي السورية كمنصة لصراع الظل مع إسرائيل بعد اندلاع الثورة قد جلبت عليه متاعب جمة.
لقد تعهد الشرع، منذ توليه رئاسة البلاد، بمنع تحويل سوريا إلى مصدر تهديد لدول الجوار، وكانت هذه الرسالة واضحة المعالم موجهة إلى جميع دول الجوار، بما فيها إسرائيل. ومع ذلك، فإن مخاوف إسرائيل المعلنة بشأن المخاطر الأمنية التي قد يجلبها وصول تيار إسلامي إلى السلطة لا تعكس الدوافع الحقيقية أو الأكثر أهمية لتحركاتها.
تنطلق هذه التحركات أولاً من منظور الفرص السانحة التي يرى نتنياهو أن التحول السوري قد أوجدها لفرض واقع أمني جديد في جنوب سوريا، وثانياً لتقويض قدرة الدولة السورية الناشئة على التعافي من خلال استهداف ما تبقى من قدراتها العسكرية، ومحاولة إحداث فتنة بينها وبين المكون الدرزي في الجنوب، وثالثاً لتعزيز دور إسرائيل كلاعب مهيمن في الجغرافيا السياسية الإقليمية.
إن حقيقة النهج التوسعي الإقليمي الذي بات يحرك السياسة الإسرائيلية في المنطقة منذ حرب السابع من أكتوبر، والاشتباك الجيوسياسي التركي الإسرائيلي في سوريا، وتناغم الإدارة الأميركية الحالية في البيت الأبيض مع هذا التوجه التوسعي الإسرائيلي، وتقاطع أهداف إسرائيل وإيران في إفشال عملية التحول السوري وتقويض جهود الشرع لبناء دولة جديدة، كلها عوامل ساهمت في بلورة نهج واقعي للشرع في التعامل مع التحدي الإسرائيلي. ويرتكز هذا النهج على أربعة مسارات أساسية:
- أولاً، تجنب الانزلاق إلى صدام عسكري مباشر مع إسرائيل تبدو نتائجه محسومة مسبقاً، وعواقبه وخيمة على سوريا وعملية التحول فيها، وعلى مستقبل حكم الرئيس الشرع.
- ثانياً، تقويض قدرة إسرائيل على المناورة من خلال تفكيك مبرراتها، وذلك عبر إبرام اتفاق لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة الجديدة، والتعامل بحزم مع محاولات تقويض الدولة بعد أحداث الساحل الأخيرة، والانفتاح على الحوار مع المكون الدرزي في الجنوب لإبعاده عن دائرة النفوذ الإسرائيلي.
- ثالثاً، إظهار التزام الدولة السورية الناشئة بالدبلوماسية وقواعد القانون الدولي في التعامل مع التحدي الإسرائيلي، على اعتبار أن هذا الالتزام يتماشى مع المواقف الإقليمية والدولية من القضية.
- رابعاً، الرهان على الدبلوماسية الإقليمية، وعلى الانفتاح على الدول الغربية للضغط على إسرائيل لثنيها عن مواصلة تحركاتها العدوانية في سوريا.
إن إعطاء الشرع الأولوية لتعزيز الانفتاح على الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، والتخلص من العقوبات المفروضة، وإدراكه للتأثير الأميركي على السياسة الإسرائيلية في سوريا، يفسر جانباً آخر من نهج الحذر الذي يتبعه. فهو يعتقد أن تجنب تصعيد الصراع مع إسرائيل يساعده أولاً في حث إدارة الرئيس جو بايدن على ممارسة ضغوط على نتنياهو للتراجع عن نهجه العدواني، وثانياً في إظهار أهمية استقرار الإدارة الحالية لتجنب تصعيد خطير في الصراع.
على صعيد آخر، يظهر تعميق الشراكة الإستراتيجية الجديدة مع تركيا وتعزيزها في المجالات الدفاعية، كأحد الخيارات التي يحتفظ بها الشرع للتعامل مع المشكلة الإسرائيلية. لكنّها تحمل في طياتها مخاطر جمة؛ لأنها ستجعل سوريا أكثر عرضة للانجرار إلى الصراع الجيوسياسي التركي الإسرائيلي، وهذا ما يفسر تردد الشرع حتى الآن في إبرام اتفاقية دفاع مشترك مع أنقرة. إلا أن هذا الخيار قد يصبح حتمياً إذا تطور النهج الإسرائيلي إلى تهديد أكثر خطورة على سوريا واستقرار سلطتها الحالية.
قد لا تحقق هذه الرهانات الأهداف المرجوة منها في المستقبل القريب، لكنها من وجهة نظر الشرع تحد من تفاقم المخاطر التي يمثلها التحدي الإسرائيلي على سوريا الجديدة. كما أنها توسع نطاق هامش المناورة المتاح أمام الشرع للتحرك في السياسة الخارجية للحصول على المزيد من الدعم الإقليمي والدولي في مواجهة التحركات الإسرائيلية.
إن دبلوماسية القنوات الخلفية التي ينتهجها كبار الداعمين الإقليميين للشرع يمكن أن تلعب دوراً محورياً في التأثير على سياسة الرئيس بايدن تجاه الدور الإسرائيلي في سوريا.
كما أن إظهار التزام جاد بإدارة عملية التحول السياسي في الداخل، بما ينسجم مع التصورات الغربية، يمكن أن يعزز من مكانة الشرع في نظر الغرب كرئيس قادر على تحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا، وإدارة الصراع مع إسرائيل باقل قدر من المخاطر.